دخان سيجارتي العاشرة يزيد من غلبة اللون الرمادي في المقهى القديم، وهمهمات الزبناء تضفي على الجو مسحة من الحزن السرمدي.
صوت فيروز الذي يمارس طقوس الحب في الصيف والشتاء يزيد من قتامة الجو، ويقربني أكثر إلى بيروت.
يصلني صوت بائع السمك مختلطا برائحة المحيط القريب، لاعنا البر والبحر والمقهى القديم:
- الزمن توقف في المقهى القديم منذ سنوات!
يحملق فيه زميله الآخر بعيون حمراء وفم مفتوح دون أن يجيب.
يبدو أن الكأس الأخيرة قد أوصلته إلى اليقين كالعادة.
صاحب المقهى رجل قصير القامة بشارب مضحك ، يذكرني بهتلر قبل انتحاره، أراه دائما ينهر مستخدميه ويبتسم للزبناء الجدد!
يصلني صوت الميكانيكي وهو يلعن صاحب المقهى، لا أميز من كلامه سوى القليل:
-”زوجته تحكمه..وهو يحكم النادل..والنادل يحكم الكؤوس..والكؤوس تحكم الرؤوس، والرؤوس..”
يقاطعه عزيز أو أرسطو كما يلقب هنا، فقد درس الفلسفة قبل أن يحترف الجلوس ولعب الورق بعد التخرج:
- هذا ما يسميه ماركس بالصراع الطبقي..
ثم استغرق كعادته يحدث الميكانيكي عن ثورة تشي غيفارا و كاسترو وماوتسي تونغ وأنجلز واليوتوبيا الشيوعية..والميكانيكي كعادته لا يفقه شيئا.
يختفي صوت عزيز بين عشرات الثرثرات والأصوات المفهومة واللامفهومة.
أعود إلى سيجارتي الأخيرة التي نسيت ترتيبها، كما نسيت عدد أيام الأسبوع وعدد النكبات، والانتصارات المقنعة والغزوات المفبركة..وعدد السنوات التي مرت ونحن تحت سطوة صاحب المقهى.
ارتشف ثمالة الكأس، ثم أغادر المقهى القديم دون وداع، تاركا ورائي كل ما فيه كما هو..
بائع السمك الذي يلعن الجميع، زميله الذي قدم استقالته من عالم الاستيقاظ، عزيز..الحالم بعالم جميل من كتب، الميكانيكي الغاضب، قصير القامة..صاحب الأمر والنهي والمقهى القديم!
سحابة الدخان تتبعني نحو الباب.
أخيرا وجَدَت المنفذ بعد خروج أول الزبناء
بقلم مصطفى البقالي