أدهشني ارتباكها، وأثار انتباهي نشاطها غير المعتاد وحركاتها العشوائية، وهي تتطلع تارة لمرآتها المثبتة على الواجهة الداخلية لمحفظتها الصغيرة، وتارة أخرى تعدل مـن تسريحة شعرها، وهي تحاول إعادة تنظيمنا وتهدئتنا.غير أننا كـنا ثائريـن هائجين كعادتنا، وكعادتها بنا.
توجهت معلمتي بنظرها أسفل أرضية مكتبها المطلي بشتى ألوان صباغة الأظافر، وأحمر وأزرق الشفاه، ومساحيق البثور وسوائل التجاعيد. وأومأت للجيلالي الذي انبطح أرضا يجمع فضلات إفطارها وأظافرها التي قلمتها صباح هذا اليوم. وبينما هي تردد على مسامعنا نشيد " كلك على بعضك حلو " وأنا أوجه فوهة مسدس وهمي، صوب جمجمة معلمتي.، دلف بغتة إلى قسمنا كهل أنيق. أمرنا بالوقوف احتراما له . أطلنا الوقوف وهو يتأمل ملامحنا المشوهة وجروحنا الغائرة... ثم انتقل ليجول ببصره بين أركان ودهاليز فصلنا المعتقل. أشار علينا بالجلوس وتوجه نحو آخر طاولة بالفصل ليأخذ له مكانا فوق كرسيها المتحرك.
كنا نتابع حركاته وخطواته بفضول صاخب، متسائلين عن هويته، توجهنا برؤوسنا نحوه في آخر الصف فنهرتنا المعلمة صارخة: " انتباه " ! و تذكرت هذه الكلمة، تـذكرتها جيدا، فطالما تهجيتها مكتوبة على إطارات علامات المرور، وأبواب الحافلات والقطارات، وغالبا ما كنت أجدها مرفوقة بـ " خطر الموت " على واجهة إحدى الأبواب الحديدية المقابلة لحمام حينا، ووقتها فقط تأكدت أن موقف معلمتي يستحق فعلا كل ذلك الارتباك، وأن هناك خطر أجهله يتهددها.
ما إن ألفنا وجود ذلك الشخص الذي أخبرني أحد زملائي أن اسمه " موفتيش" حتى استرسلنا في شغبنا و ضجيجنا...
تجهم وجه المعلمة و صرخت بلطف" سكات " ! و رأيت " موفتيش " يرفع رأسه فجأة، ويعقد حاجبيه موجها نظرات مؤنبة لمعلمتي ؛ إلا أنها سرعان ما تداركت الموقف وصرخت مصححة بصوت حزين : "سكوت " !لكن وبالرغم من ذلك ازداد حاجبا " موفتيش " ارتفاعا . وتراجع برأسه وجسده إلى الوراء مستندا بيديه على مقعد الطاولة فاتحا عينيه عن آخرهما .
تلعثمت معلمتي أكثر، و استدركت مصححة بصوت باك هذه المرة: " سكيت "!!!.
و هنا انتفض " السي صالح – كما نادته المعلمة فيما بعد – وانتزع نفسه من مكانه واقفا. ارتجـفت معلمتي واختلطت عليها الكلمات ، ثم رأيتها تتجه مسرعة مرتعدة نحو مكتبها ، تناولت من أحد أدراجه صحنا معدنيا جميلا، وعادت به إلى حيث ارتكن زائرنا الثقيل ، مردفة بصوت متلعثم مثير للشفقة : " مسكوتة ، وسيلة إيضاح شهية ! " .
تناول "صوصو" كما دللته معلمتنا عندما أرادت توديعه – الصحن بكل أدب و احترام واعتذر لها متألما ، و هو يحك مؤخرته " اعذريني ساكنتي ! فقد منعني مسمار صدئ بارز من بين خشب الطاولة التي اقتعدتها من تتبع سير حصتك لكنك على العموم كنت فاتنة ".
عقدت معلمتي ذراعيها وراء ظهرها واصطنعت ابتسامة باهتة في وجه "صالح ". هزت كتفيها يمنة و شمالا. استرجعت منه الصحن بدلال لا يقاوم ، وتوجهت بنظرها نحونا وهي تصرخ بكل وحشية"سكتو الله يعطيكوم الساكتة".