إن نظرت جهة اليمين رأيت مطبخا صغيرا يتكون من أوان بعضها قديم و آخر جديد .. و من قنينة غاز صغيرة لايعرفأهميتها في ذلك المكان سوى صاحبها.. و من برميل ملأته بالماء أيادي بيضاء سكنقلبها الصغير حب كبير لصاحب الغرفة ..
و إن التفت جهة اليسار وجدت غرفة جلوسأثاثها حصير.. و مائدة متوسطة الحجم و قليلة الارتفاع وضع فوقها مصباح..
و إناتجهت إلى وسط الغرفة فأنت في غرفة نوم سريرها لحافان سميكان فرشا فوق الحصير.. وصوانها حقيبة و رزمتان رتبت بجانبهما كتب و جرائد و مجلات .. و غير بعيد عنها علىالحائط علق لوح خشبي اتخذه صاحبه سبورة بعدما غير ملامحه بطلاء أسود ..
***
لم أصدق عيني حينما رأيت اسمي ضمن لائحة المقبولين في مركز تكوين الأساتذة.. ولا أذكر الوجوه التي كانت بجانبي يهنئ بعضها البعض أو يواسيه.. كل ما أذكره أن اسميكان لامعا لمعانا شديدا لم يخفه عني سوى بريق دموعي ..
غادرت مبنى نيابةالتعليم في اتجاه المنزل .. استقليت سيارة أجرة فلم يكن بمقدوري انتظار الحافلة ،كنت أتعجل إبلاغ أمي بنبأ نجاحي ، و قد كانت فرحتها عظيمة .. سجدت لله شكرا ، وأغدقت علي قبلاتها بسخاء .. و جادت لي ببعض النقود .. و طافت أرجاء المنزل و هيتزغرد.. فعلت أشياء كثيرة .. و بعدت أن هدأت جلسنا سويا نضع خطة المستقبل ..
تحدثنا عن حاجتي إلى ملابس جديدة و مصروف شهري .. و عن الأوراق اللازمة لإتمامالتحاقي بمركز التكوين .. و اتفقنا على أن تحملي أجرة الكراء وحدي أفضل بكثير منالاشتراك في المسكن مع أناس لا نعرف شيئا عن أخلاقهم .. و لم تنس أن توصينيبالاتصال هاتفيا بخالي في القرية لأبلغه الخبر ....
كان حديثنا طويلا و مضطربا .. لكن في الوقت ذاته كان حديثا مفعما بالأمل ينبئ القلوب بأن موسم جني الثمار قداقترب
***
انقضت سنة التكوين و التدريب و حانت لحظات انتظار تعيين منطقةالعمل ..
كان الفصل صيفا و مدينة الدار البيضاء مكتظة الشوارع و الأزقة والشواطئ و الأسواق و المقاهي ...
شعرت بالضيق و الاختناق و وددت الرحيل إلىمكان بعيد علني أفر فيه من السؤال المؤرق المحير الذي يطاردني في كل الأحيان
ترى ما المصير؟ و إلى أين المسير ؟
ظهرت النتائج .. اتجهت إلى مصلحةالموارد البشرية لأسأل عن منطقة عملي، سرت في الممر الطويل بقلب تتسارع ضرباته وبرجلين تصطدم الواحدة منهما بالأخرى من شدة الخوف ، كانت أغلب المكاتب مغلقةالأبواب لأن موظفيها في عطلة، و في نهاية الممر وجدت المكتب رقم 15 ، دخلت و ألقيتالسلام و قبل أن أتم كلامي سألني الموظف عن رقم بطاقتي الوطنية، كان يعلم ما أريد .. فما أكثر السائلين في هذه الفترة عن مناطق عملهم.
بحث في الحاسوب ثم قال ليعينت ب ......؟؟؟
ظللت صامتا برهة من الزمن أنظر إليه ببلاهة.. و عندما أفقت منالصدمة سألته : لمن سأدرس اللغة الإنجليزية هناك؟
ابتسم و أحس بمصابي فحاولالتخفيف عني بضرب المثل بكثيرين عينوا في مناطق ( لي مشى ليها عمروا ما يرجع) لكنهمذهبوا ثم عادوا
***
سافرت إلى هناك .. حيث الغرفة متعددة الأدوار .. أستيقظمتأخرا من النوم .. أتناول وجبة الفطور .. ثم أتسلى بممارسة هوايات تعلمت أسرارهامع ما تعلمته من الحياة هناك ..
في العصر يحضر إلي أبناء القرية لألقنهم الدروسالأولى في اللغة العربية .. و بعد أن أودعهم أستلقي فوق فراشي أتأمل .. أفكر .. أسترجع أيام الطفولة و اللعب في الزقاق .. و سنوات الدراسة .. و يوم وفاة والدي .. و احتفالات الجامعة بالمتفوقين .. و أصوات المهنئين و المواسين يوم القبول في مركزالتكوين .. و صورة والدتي و هي تبكي و تحوقل و تدعو على مجهول قاس القلب فرق بينهاو بين ابنها ..
و قد أعد وجبة العشاء أو لا أعد ..!!..
و قد أستمع للمذياعأو لا أستمع !!....
و قد أقرأ كتابا أو لا أقرأ ..!!..
لكن الأكيد أنني أنام طويلا .. أحلم باليوم الذي أبعث فيه من جديد إلى الحياة .. بعدما دفنت تحتأنقاض مدرسة وهمية .. وضع حجر أساسها و لم تبن بعد