جاءت إلي صبيحة ذات يوم ربيعي،و قد أشرق و جهها بابتسامة رقيقة تخفي آلام الزمن الغابر، و آهات النفس التائهة. سألت عن الأحوال ، و استرسلت في الحديث و كأنها تخشى أن يسألها أحد عن حالها. كانت كتومة ، لا تحكي إلا نادرا، لا تحب أن تزعج الآخرين بهمومها و لكنها تفتح قلبها لهموم صديقاتها، تواسيهن ،و تشجعهن على المضي بأمل في دروب الحياة و لا تغادرهن إلا مبتسمات. هكذا هي و هكذا كانت تصفها صديقاتها *مولات الصواب و العقل الكبير*. لكنها اليوم شاردة على غير عادتها فرغم الابتسامة فإن عينيها الحزينتين تفضحانها. سألتها : ماذا بك ؟ ردت: لا شيء. و استرسلت في سرد قصة مضحكة. انقبضت أسارير وجهها فجأة، توقفت عن الكلام و أطلقت العنان لنفسها بنفس طويل وكأنها تحمل صخرة سيزيف. اغرورقت عيناها بالدموع،استجمعت قواها قائلة: سأغادر. منعتها'' لن تذهبي حتى أعرف ما بك'' استسلمت أمام إلحاحي و حكت كل شيء ،و انصرفت غاضبة مرددة: لماذا يريد إسقاط المثل؟
فمنذ مدة وجيزة، و كعادتها كانت تبحر في عالم الانترنيت ، تتصفح أوراقه المهمة منها ، كانت منبهرة بما تجود به أقلام هؤلاء الذين يكرسون و قتهم لخدمة الاخرين. تمنت لو كانت واحدة منهم. و أخيرا قرأت موضوعا حيا، فرحت كثيرا ، فقد أثار حفيظتها ووجدت نفسها تكتب بخط عريض وواضح ردا على مشاركة أحد رواد هذا ''النادي'' و الذي طالما اعتبرته بحرا من العطاء لا ينضب . و ها قد جاءت المناسبة لتجد نفسها في محاورة ''الهرم'' كتبت: ''نحن هنا أيضا بصدد تطبيق ما تعلنون عنه''.جاء الرد مشجعا جعلها تتقدم خطوة أخرى.كانت وعدا بالعطاء. و كعادتها أوفت بالوعد مما زادها حظوة في النادي الثقافي الذي اعتادت ارتياده.فجاءها الرد من صاحب النادي مثمنا جهودها. كانت سعادتها لا توصف فقد زادها ذلك ثقة بنفسها و بقدرتها على العطاء. و أثبت لها بأن لا شيء مستحيل.و أنها تمتلك مميزات ثقافية و إبداعية أحسها من خلال مشاركاتها دفعته لدعوتها للمشاركة في مهرجان ثقافي.لم تتردد أمام دعوته كترددها حين قرأت الإعلان دونما جرأة على المشاركة و دونما ثقة في قدرتها على المواصلة. كانت سعيدة جدا ، سعادة لا توصف بمداد الكلمات، فهي في حضرة الأستاذ الذي باتت لا تفتح النادي إلا بحثا عما يكتبه. و تربى بين ضلوعها إحساس جميل بات يربطها به إنه احترام ، تقدير، تبجيل لهذا الفتى الصغير السن الكبير العقل واسع العلم و المعرفة، المتواضع فائق الذكاء،و الذي كان حديثه لها و ثقته بها وساما قلدها إياه.
اشتركت في المهرجان، زادها ذلك اهتماما به: تعلقا بأستاذ كبير ، و في أول حوار لهما على شبكة الإنترنيت أحسته مهتما بها بشكل لافت حتى هو لم يكن ليحس بنفسه، بحرية تحدث، انطلق في أسئلته،كانت بسيطة حينا محرجة حينا آخر،بغريزة امرأة أيقنت مما يحسه فهو لا يكلمها كأستاذ، فبقدر إصراره على التحدث دون قيود، كانت مصرة على كونه الأستاذو المقامات تتحترم،عرض عليها صداقته ،طلب صداقتها مما زادها فخرا وعزة فهي ستصبح صديقة الأستاذ الشيء الذي لم تفعله مع رواد الانترنيت فشعارها ''لا للثقة في عالم العولمة''.و لكن هذا كان مختلفا ''إنه الأستاذ رغم صغر سنه'' .فما أجمل أن يكون لك في البعد صديق.
و لتفعيل هذه الصداقة هاتفته لأول مرة فجاء من الطرف الأخر صوت عذب صادق بريء، يشوبه الاحساس بالعظمة و الهبة. كان سعيدا بالمكالمة فهو الآن لديه صديقة تسأل عنه و تهتم به. و توالت المكالمات لظروف طارئة حلت بالأستاذ . تمنت لو كانت بجانبه لتخفف عنه وطأة ما أحل به.أحسته كطفل صغير في حاجة إليها.لكن ما باليد حيلة فالمسافة بعيدة و ظروفها الخاصة لا تسمح بذلك .
و توالت الأيام، وأتت بعكس ما انتظرته ، و أفصح الأستاذ عما يخالجه، و لأول مرة تجد نفسها عاجزة عن الرد، غير حاسمة فهي لا تريد أن تخسر الأستاذ، هكذا أخبرته، لكنه أبدى تعلقا كبيرا بها،لم يكن مراوغا أو كاذبا ، عبر بصدق عن طويته.و عن أهمية وجودها في حياته. قالت: أريدك صديقا.قال أريد أكثر،قالت : لا أستطيع. قال: أنساك. تألمت قال: كوني لي و أكون منالك وكل ما تحلمين به. لم تصدق ما يحدث .ولماذا تسمح له بالحدوث؟ و كيف تفعل و هي لطالما كانت صارمة جازمة،و لم تسمح لأحد أن يتجاوز حدوده في الحوار معها. و لكن ما يحدث مع الأستاذ مختلف ، فمكانة الأستاذ عالية ، سامية، فوق كل اعتبار منزهة عن الرغبات مترفعة عن المنفعة، بعيدة عن أهواء النفس الخبيثة.
أصر على الحب،أصرت على الصداقة، فما تحسه يجعلها تتعفف حتى في التفكير في الأمر، بغض النظر عن حياتها الخاصة.لكنه قايضها:"أن نكون أو لا نكون". أحسته يبتزها....... و لكي لا تخسر صداقة الأستاذ، قررت أن تحدثه بتلقائية أكثر.و أمام رغبتها في التضحية من أجل الأستاذ ، قبلت دعوته لتناول وجبة من تحضيرها.كانت مترددة جدا.فكيف لها أن تشارك الأستاذ مائدة الطعام؟و كيف تفعل و هي التي لم تدخل المطبخ أبدا؟ و كيف لها أن تحاوره كشخص عادي؟
كانت هناك مشاعر متناقضة تتجاذب هذه النفس التائهة، امتناع، خجل، تردد، خوف ، و قوة أخرى تدفعها للتضحية من أجل الأستاذ.فما ستقوم به هو مجرد هدية لن تتكرر،فهو صديق يستحق كل شيء، إلا أن يكون زوجا أو حبيبا،فهو في نظرها أسمى من ذلك كله.
و جاء الموعد و جاء و قت الوفاء بالوعد،و هي التي لطالما احترمت وعودها . قررت الوفاء بالوعد الذي قطعته على نفسها. و رغم مشاعر الحيرة و التردد التي كانت تجيش في داخلها، ابت إلا أن تبدو طليقة، سعيدة بالجلسة، و التحدث إلى الأستاذ ، فحاورته بلباقة، ولو أنها كانت في كثير من الأحيان تجتهد في تكرار ما يردده الأستاذ. كانت محرجة مترددة لم تستطع مقاطعة الجلسة و لا حتى إلغاءها،إنه الوفاء بالوعد الذي تمنت أن يقابله وفاء الأستاذ و تكون الجلسة الأولى و الأخيرة فهي غير بارعة في فنون القول و لا حتى في فرض نفسها في الجلسات الثقافية مثل هذه. و لقد شهد الأستاذ بذلك و أعطاها نقطة الصفر مازحا. فأيقنت بأنه لن يحرجها مجددا.
و انتهى اللقاء ولكن على عكس ما تمنته فقد وعدها الأستاذ بأنه سيعلمها براعة القول و يجعلها سلطانة الكلمة. تجاهلت الأمر فهي لا تريد أن يدخل حياتها إلا أستاذا عزيزا ساميا . و لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ، فهو يبحث عن أنثى تملأ حياته ، و المسكينة لا هم لها إلا صداقته، فقد قدسته كما لم تقدس أحدا من قبل،فهو الاستثناء و السبب لا يعلمه إلا الله تعالى.
و في جلسة كانت الأخيرة، تحدث بإسهاب عما يحسه تجاهها.كانت تحاول توجيهه نحو الصداقة. أغضبته،عبر عن استيائه عنفها:ألا تفهمين ؟ قالت :بلى
قال: إذن أنت تهزئين بي. ردت : أنا أقدس فيك الأستاذ.
جرح كبرياءها،أبكى مقلتيها قال: ارحلي فلن تجديني معرفتك شيئا. فهي لا تحمل أي قيمة مضافة.
استجمعت ما تبقى من كرامتها،و بصوت متهدج بالبكاء قالت:" صمتا .صمتا. لا تفسد صورة الأستاذ. لا تحطم المثل، ما أحسه تجاه الأستاذ لا يمكنك أن تفهمه أبدا.فالأستاذ أسمى بكثير مما تعبر عنه أنت"
لم يعر كلامها اهتماما و انصرف كما انصرفت تحمل بين طياتها ألما رهيبا لم تحسه من قبل ،و سؤالا يتردد في ثنايا نفسها المكلومة:"أين قدسية العلاقات الإنسانية؟ " . و اختفت كأنها لم تكن.
المسكينة لقد نسيت بأنه مجرد رجل كالآخرين.......فهي ترفض ذلك، فما تكنه له لم ولن يكون عاديا أبدا.